24 ساعة

أراء وكتاب

الجزائر تكرس دبلوماسية البترودولار وشراء الذمم

الجزائر.. بمن سيضحي النظام من أجل تبرئة ذمته؟

نوايا ”الجماعة”

يوميات

berkanexpress

المجلس الرئاسي الليبي: تفاجأنا بحديث تبون عن اتفاق حول كيان مغاربي ثلاثي

خارج الحدود

-berkanexpress-

الاتحاد الأوروبي يندد بمناورات النظام الجزائري
الرئيسية | كتاب وأراء | العربية لغة العلوم والتقنية

العربية لغة العلوم والتقنية

لقد استطاعت اللغة العربية عبر القرون المتتالية أن تحافظ على بقائها وتوازنها الحركي، فامتصت اللغات الخاصة و المفاهيم النظرية الإغريقية وأوجدت لها مقابلات عربية أحيانا ومعربة أحيانا أخرى. وما دامت العربية قد استطاعت فعل ذلك مع أعقد المفاهيم واللغات المنطقية والرياضية في تلك الآونة، فهذا دليل على قدرتها التعبيرية على أدق التصورات التجريدية وأعقد المفاهيم النظرية. وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بخلق وحدات عربية أو معربة في مختلف الميادين العلمية والتقنية والفنية والإدارية. فأمام التدفق الهائل للمفاهيم لا بد للمختص أن يكون على اطلاع بأحدث التصورات في مجال تخصصه وأن يحين معارفه كلما تطورت المفاهيم.

إن تاريخ اللغة العربية يؤكد استعمالها وتعريبها للغات الخاصة لقرون عديدة، وامتدت اللغة العربية الخاصة من تخوم الصين إلى سواحل الأطلسي وبلاد الأندلس وجزر المتوسط، ومن أقاصي طشقند إلى منابع النيل في أواسط أفريقيا. قال “جورج سارطون” في كتابه “تاريخ العلوم: “لقد كان العرب أعظم المعلمين في العالم وقد زادوا على العلوم التي أخذوها ولم يكتفوا بذلك بل أوصلوه إلى درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء”، رغم أن هناك من يقود حملة على اللغة العربية من أجانب وعرب ومنظمات دولية زاعمين أنها لا تصلح للغات العصر وعلومه، بل أنها سبب التأخر والتخلف. وهناك من دعا صراحة إلى تركها إلى العامية أو استعمال لغة أخرى بدلها ومن هؤلاء: عبد العزيز فهمي وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وسعيد عقل واللائحة تطول مع مرور الزمن. لكن العربية ما زالت صامدة يتطور رصيدها المعجمي -المشترك والعلمي والمتخصص- عاما بعد عام.

ولقد أجمع اللسانيون وأهل الفكر أن اللغة العربية لغة مطواعة، لها من الخصائص الصرفية والاشتقاقية والتركيبية ما يجعلها قادرة على مواكبة العلوم، وتشكيل اللغات الخاصة داخل ميادين مختلفة. وأقرت هيئة الأمم المتحدة، والمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة، والهيئات، والوكالات الدولية ،بأن العربية لغة عالمية حية، واعتمدتها لغة رسمية إلى جانب باقي اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

ولكن اللغة العربية رغم المميزات السابقة التي ذكرناها أعلاه ،فإنها مازالت تعاني من بعض الصعوبات في إنتاج وتعريب اللغات الخاصة، نظرا لتشعب العلوم وتفرعها إلى تخصصات دقيقة ،أدت إلى توليد الآلاف من المصطلحات والمفاهيم والتراكيب الخاصة،يصعب على العربية اليوم استيعابها بنوع من الدقة. وإذا كانت اللغة الفرنسية اليوم تجد صعوبة كبيرة في مسايرة تدفق المعرفة وما تولده من لغات خاصة ومصطلحات ومفاهيم فما بالك باللغة العربية. إن عدم وجود سياسة عربية وقومية موحدة لمسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي لهُوَ من أهم أسباب ضعف اللغة العربية الخاصة.

يُعتبر تعريب اللغات الخاصة من أصعب القضايا اللغوية المطروحة -الآن- في العالم العربي ،لأنه يهم تعريب لغات متخصصة هي أساس التطور للتوصل إلى التقدم العلمي، والاقتصادي، والاجتماعي في العصر الحديث. ولقد انتبهت إلى ضرورة ترجمة اللغات الخاصة دول متقدمة ،نحو الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، والصين، وبعض الدول الأوروبية المتقدمة. فانكبوا على إنشاء مؤسسات خاصة بترجمة اللغات الخاصة في شتى المجالات(العلوم –الفنون- الصناعات…) .وكان كل ما يصدر من كتب ومجلات ومقالات في العالم يترجم بشكل فوري، ثم يخزن في قواعد معطيات محوسبة ليستغل عند الضرورة.

وأما في العالم العربي، فإن تعريب اللغات الخاصة لم يأخذ بعد قسطه من طابع الاستعجال والأسبقية والأهمية، للنهوض بتعريب مواكب لمقتضيات العلوم والتقنيات في عصرنا الحاضر. وذلك راجع إلى أسباب منها: أن التعريب في الوطن العربي لم ينطلق من نفس المبادئ التي انطلق منها استعمال اللغة الوطنية في البلدان الأوروبية، والتي اعتمدت على ترجمة الكتب المدرسية ترجمة وفية ،بضبط المصطلحات والتعابير الحديثة، إلى أن صارت قادرة على مسايرة العلوم والتقنيات المعاصرة بلغتها الوطنية.

لقد تم إدراج التعريب في معظم بلدان العالم العربي بدون ضبط أدواته التعليمية فصُنفت كتب مدرسية فيها فراغات مفاهيمية واصطلاحية لا ترقى إلى مستوى الكتاب المدرسي الغربي. وتأخر العرب في ضبط المصطلحات العلمية والتقنية باللغة العربية، مما انعكس على جودة تعريب اللغات الخاصة. ورغم الجهود المبذولة من قبل المجامع اللغوية في وضع المصطلحات العلمية، إلا أنه مجهود غير مكتمل بالنظر إلى متطلبات العصر، وبالنظر إلى الاضطرابات في المصطلحات غير الموحدة ،بسبب عدم التنسيق وتوحيد منهجية الاشتغال، بناء على آراء العلماء والمثقفين.فهذه الهيئات المهتمة بالتعريب ووضع المصطلحات لا تستشير دائما من العلماء من تجب استشارته. وتمكن في بعض الأحيان من لا علم لهم من تعريب اللغات الخاصة وتصنيف الكتب العلمية و المدرسية.ناهيك عن الارتجال السائد في التأليف المعجمي القطاعي، فلا ما هو مخزون في التراث العربي استُغل بطرق رشيدة، ولا ما وُلد و وُضع اعتُمد في توليده ووضعه مصطلحات موحدة بين الباحثين العرب. والنتيجة أن المترجم يحار فيما يجده من الاختلافات بين القواميس القطاعية، ولا يجد من المعاجم المتخصصة ما يشفي غليله، وهو المطالب بتجنب كل لبس أو خلط أو تعتيم. وبصفة عامة، فإن مشكلة اللغات الخاصة، ولا سيما المستخدم منها في التدريس والتعليم، قد أعيرت اهتماما كبيرا في الفترات الأخيرة، وتعددت المؤسسات المسؤولة عن إيجاد المقابلات العربية للمصطلحات التقنية والعلمية والفنية. ومنها ما قام به مكتب تنسيق التعريب، ومعهد الدراسات والأبحاث من أجل التعريب بالرباط، من مشاريع مهمة في مجال المعاجم الخاصة والقطاعية، كمعاجم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا والفلسفة وغيرها…كما طُبعت عدة معاجم متخصصة تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إلا أنها بقيت مخزنة على الرفوف تتآكلها الرطوبة، ولم تبرُز للناس ولم توزع على جمهور المتخصصين والمستعملين. ولعل وسائل التكنولوجيا الحديثة قد تخرجها إلى العموم في صيغة إلكترونية أو مُحَوْسَبة.

بالإضافة إلى ذلك، تكاثرت المجامع اللغوية في البلدان العربية،كل يعمل منعزلا ،متجاهلا ما عداه، ولكل منهجه الخاص. إننا نرى كثرة من المجامع اللغوية تتوزع في الوطن العربي، ونشاهد جهودا تتشتت ومناهج تختلف. ولعل الوقت قد حان للتفكير في خلق مجلس عربي أعلى للتعليم العالي يمثل المجالس القُطرية للتعليم في العالم العربي، يضطلع بمهمة التخطيط المحكم للبرامج والمناهج المشتركة، ويواكب بانتظام تطور العلوم وتقدم التقنيات، ويقرر في سياسة التعريب والترجمة، ويعمل على نشر وتوزيع أعماله على الجامعات العربية، ويكون جسرا بين أهل العلم وأولي الأمر في الوطن العربي.

لقد هيمنت على وجدان البعض فكرة شمولية اللغة العربية وطاقتها الكامنة في بطون الكتابات التراثية ،مما أدى إلى الخلط بين الإمكانات اللسانية التي تتسم بها اللغة العربية للتعبير عن المفاهيم الحديثة، وبين ما هو جاهز فيها من منتوج تعبيري عن المفاهيم المستحدثة أو الطارئة. فهل هناك إدراك بعلو المستوى الذي ارتقت إليه العلوم العصرية في تشعبها وتشابكها وتعقد معطياتها ودقة أساليبها في البحث والاستنتاج؟ أم أن الاعتزاز المفرط بماضي العربية المجيد، والتمدُح للعلماء من السلف، شغل البعض عن تقصي الأمور؟

نعم إن اللغة العربية من أقدم اللغات، وقد رافقت حضارات متعددة وساهمت في إغناء لغات أخرى ومدتها بمفاهيم متطورة، وهي الآن من اللغات التي يعترف بها المجتمع الدولي كلغة للتربية والثقافة والتعليم .لذلك فإن تعريب اللغات الخاصة اليوم يعد ضرورة قومية واجتماعية وتربوية وعلمية . فاللغة العربية هي لغة ما يزيد عن مائة وخمسين مليونا من العرب . وهي عماد تكوين مفهوم الأمة العربية .وقد صمدت في وجه محاولات سعت، وما زالت، لقهرها واجتثاثها وتغييرها بلغات أخرى، كالتركية و الفرنسية والأنجليزية و الإيطالية ؛ إذ كانت لغات أجنبية كالفارسية والتركية هي السائدة في كل مرافق بعض الدول، ما عدا في المغرب الذي حافظ على العربية الفصحى في مراسلاته الإدارية مع الشعب. فالعربية تعايشت مع هذه اللغات وفرضت نفسها بينها ،ولكن كلغة عامة أو مشتركة قلما يلتجأ إليها في التواصل التقني أو العلوم الدقيقة، مع ما يقابل ذلك من قصور في مجارات اللغات الخاصة ولغات العلوم على وجه التحديد، مما أدخل بعضا من الضيم على اللغة العربية الخاصة أو العلمية .فهي ما زالت تتأرجح بين لسانين أو أكثر،مما يعطي الغلبة للسان دون الآخر. وأفضل من صور المتأرجح بين لسانين الجاحظ حين قال :”ومتى وجدناه تكلم بلسانين ،علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما،لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها،وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟وإنما له قوة واحدة،فإن تكلم بلغة واحدة، استُفرغت تلك القوة عليها”.

يخبرنا تاريخ التربية و اللغات المتخصصة، أن اللغة الخاصة بالتدريس عند سومر في الألف الثالث قبل الميلاد، كانت هي اللغة السومرية، ثم صارت بعد ذلك في عهد الآكاديين اللغة السومرية الآكادية،إذ كانت الآداب تدرس باللغة الآكادية و العلوم باللغة السومرية. فدعى ذلك الوضع إلى تصنيف قواميس ثنائية اللغة تعد أول القواميس المعروفة إلى اليوم.

ومما سجله التاريخ العلمي الأوروبي، أن الثقافة المزدوجة للمفكر الروماني “شيشرو”هي التي رفعت اللاتينية إلى مستوى اللغات الخاصة المؤهلة للمساجلات المتخصصة في الفلسفة والأدب. وهذا يذكرنا بالخدمات التي قدمها ابن المقفع للغة العربية رغم أصوله الفارسية، حيث لقحها بثقافات أخرى ،وأدخل عليها تراكيب وتعابير لم تكن مألوفة من قبل. وفي نفس السياق تمكنت مجموعة “لوبْلِييَاد” في القرن السادس عشر من ترقية إحدى اللهجات الفرنسية إلى مستوى اللغة المتخصصة التي انطلق منها الأدب الفرنسي الكلاسيكي.

واللغة العربية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى هذه الحركات الفكرية والثقافية الواعية، إذ لا يمكن الحديث عن تعريب العلوم أو اللغات الخاصة في معزل عن تعريب الثقافة، لأن التعريب في المجال الثقافي هو بمثابة التجارة في المجال الاقتصادي.فبدون تجارة لا يمكن للاقتصاد أن يتطور،وبدون تعريب لايمكن للثقافة العربية إلا أن تتحجر في قوالب لغات أخرى، بعيدة عن هويتنا وقوميتنا التي بها نكون.

لقد دخلت الهندَ علومُ العصر قبل الصين بأكثر من قرنين، ولكن الهند متخلفة الآن عن الصين،ومن أسباب ذلك، اللغة الإنجليزية التي هي لغة التخصص، و لغة العلم والتكنولوجيا في الهند. وكانت الصين في وضع مشابه للهند إلا أن “ماوتسي تونغ” اتخذ قرار اعتماد اللغة الخانية(لغة بيكين) لغة رسمية للبلاد ،وعممها كلغة خاصة بالتعليم والبحث العلمي.

وفي نفس السياق، قفزت سنغفورا وأندونيسيا وماليزيا من حضيض التخلف إلى أوج التقدم باستعمال اللغة المالايْوية. واستطاع الإسرائيليون الرقي بلغتهم .وأضحت العبرية لغة العلوم .وتشير الدراسات إلى أن الباحثين الإسرائيليين نشروا في عقد واحد ما يقارب ستة وسبعين ألف 76.000 بحث علمي متخصص، مقابل أربعة و أربعين ألف(44.000) بحث علمي لكل العرب .

لقد كان العالم الإسلامي سباقا إلى تعريب العلوم واللغات الخاصة بميادين مختلفة. وبيت الحكمة في بغداد تجسيد لذلك. وقد قلده المسيحيون بعد ثلاثة قرون في أوروبا، وأحدثوا مدرسة طليطلة للمترجمين وكان دورها محوريا في نقل العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية. وقد سبق للأمة العربية أن خاضت تجربة رائدة في تعريب لغات التخصص، ولعل أروعها وأغناها في تاريخ الفكر الإنساني هي تجربة دامت ثلاثة قرون كاملة،امتدت من القرن الثامن إلى القرن العاشر ميلادي ،ثم أعقبتها في الاتجاه المعاكس تجربة نقل علوم العرب إلى الغرب على مدى قرنين من الزمان ،هما القرنان الميلاديان الثاني عشر والثالث عشر. و كان من أبرز هذه الصحوات قبل ثلاثة قرون ،تلك الصحوة التي حمل لواءها البغدادي صاحب “الخزانة”، والزبيدي صاحب “تاج العروس”، والجَبَرتي الكبير صاحب المخترعات الميكانيكية والصنائع الحضارية، التي تعلمها منه طلاب الإفرنج ،وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم ،وأخرجوه من القوة إلى الفعل،واستخرجوا به الصنائع البديعة.

ولقد عدد ابن النديم في فهرسته من التراجمة الأوائل للغات العلوم ،مَن كان ينقل عن الفارسية ،كابن المقفع، ويونسَ وموسى ابنيْ خالد، والحسن بن سهل، والبلاذُري أحمد بن يحيى بن جابر (المؤرخ) ، وإسحاق بن يزيد، ومحمد بن الجهم البرمكي. ومنهم من كان ينقل عن الهندية والنبطية ،كابن وحشية، وابن دهب الهندي. ومنهم من كان ينقل عن السريانية،أو عن اليونانية مباشرة، كابن ناعمة الحِمْصي، وهلال الصابي، وقُسطا بن لوقا البعلبكي، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وعيسى بن يحيى الدمشقي.

ويحكى أن الخليفة السابع عبد الله(المأمون) بن هارون الرشيد أقبل على طلب العلم، فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا وسألهم ما لديهم من كتب العلم، فبعثوا إليه كتب أفلاطون، وأرسطوطاليس، وأبقراط، وجالينوس، وإقليدس، وبطليْموس. واستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم بترجمتها إلى اللغة العربية.

إن نقل اللغات الخاصة إلى العربية على يد السريان في المرحلة الأولى ركز على نقل العلوم التي كانت الحاجةُ ماسةً إليها، كاللغة الطبية والفلكية والهندسية والرياضية والفلاحية ولغة الميكانيكا والصيدلة. وكانت عملية النقل تتكرر على أساس إصلاح الترجمة الأولى وتنقيحها وجعلها أكثر وضوحا للمستعمل العربي. وكانت لغات العلوم تنقل في البداية من اليونانية بتوسيط السريانية، ثم تطور الأمر فأصبح نقل اللغات العلمية يتم مباشرة من اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية.

ماذا بقي لنا أن نقوله ونحن في القرن الحادي والعشرين عن أهمية تعريب اللغات العلمية والخاصة؟ ونحن مازلنا نجتر أمجادا صنعتها أمة عربية غابرة.تلك الأمة التي تربعت على عرش العلم والحضارة سبعة قرون وسطى مزدهرات ،حفظت للبشرية فيهن حكمة الأولين والآخرين،وأفاضت على الدنيا من الإبداع كله والخير جله،ما مكن العالم الآخر الذي يدعى اليوم عالما أولا من الخروج من ظلماته التي تخبط فيها طوال القرون الوسطى، ليتبوأ مكانة الوارث لهذه العلوم والإبداعات.

الأمة العربية اليوم هي خلق جديد وُلد مع انهيار سلطان العباسيين بالمشرق، والموحدين بالمغرب.وها قد مرت قرون على هذا الخلق الجديد وبلغنا مطلع القرن الحادي والعشرين وما زال الباحث يقنع بما يتناثر عليه من فتات موائد الفكر الغربي، وقد وجد نفسه أمام جبل عظيم من المعرفة والعلم، أُخفي بابه عليه بإحكام .وهو جبل يتعاظم بسرعة لا يكاد يلحق بها خيال. فأصبح فاقدا لزمام المبادرة، قصارى أمله أن ينقل العلم بلغاته عن غيره . أما أن يحوزه، ويبتكره، ويعربه فهذا أمر يستعصي في الغالب عليه. وقصارى جهده أن يُتقن لغة عمالقة الحضارة عله يستطيع أن يعرب منها قسطا يسيرا .أما أن يجعل لغته لغة حضارة، لغة تخصص، يُبدع بها، ويُصنف فيها، كما أبدع الآخرون بلغاتهم،فهذا من أبعد الأشياء عن منطق نفسية المهزوم.

هذه الانهزامية لم تعرفها الأمة العربية القديمة التي تحدثنا عنها أعلاه في هذا المقال، فقد أوجدوا لغات خاصة مبتكرة، كاللغة النحوية والعروضية و الأصولية وعلوم التفسير والحديث والكلام. وكل هذه لغات عربية خاصة بحثة ،أبدعتها عقول أبناء هذه الأمة العربية على غير نموذج سابق.وهذا هو النضج العلمي والثقافي الذي ينقص العرب اليوم. فهذه العلوم واللغات الخاصة التي ابتكرها العرب، وأبدعوا مناهجها وأصولها، هي التي أعدت الأمة العربية لاستقبال العلوم واللغات الخاصة، التي لم يكن لها بها عهد. وجعلتها تنفتح على الثقافات الأخرى بلا حرج ولا عُقد. وتقف منها وقفة العالم المتبصر، والناقد الناجع. فلم تأخذ العربية من الحضارة اليونانية – مثلا- شيئا من لغات الأدب، أو الشعر، أو المسرح، أو الميثولوجيا. ولكنها أخذت منها لغات الطب ،والطبيعة، والحكمة، والفلسفة.

وقد سبقت حركةَ تعريب اللغة العلمية عند العرب دراسةُ اللغة الفلسفية .فيوم استقر العرب في بلاد فارس ومصر،عُني خالد بن يزيد الأموي بالكيمياء والطب والفلك، وأمر المتخصصين بمصر بتعريب رسائلَ فيها عن اليونانية والقبطية. كذلك أمر عمر بن عبد العزيز “ابنَ ماسرَجَويه” بترجمة كتاب “أرهن القس” في الطب. ويوم اتجه المنصور نحو مدرسة “جنديسابور” التي أسسها كسرى أنشوروان،اهتدى إلى” بني بختيشوع” الذين كان لهم شأن في نشأة الدراسات الطبية العربية، وأسهموا في حركة الترجمة. كما قام في أيامه عبد الله بن المقفع بتعريب كتب في المنطق والطب ،كان الفرس قد نقلوها من اليونانية.كذلك نقل يحيى بن البطريق كتبا كثيرة لبقراط وجالينوس،أمره المنصور بنقلها.

لقد استطاعت اللغة العربية أن تستوعب بقدرة فائقة اللغات الخاصة اليونانية، والفارسية والهندية. بالرغم من كون العربية لم تكن من قبل سوى لغةَ بداوة متخلفةً عن مضمار الركب الحضاري بالقياس إلى الشعوب المحيطة بها.وعُربت لغة الإدارة في وقت مبكر. وكانت دواوين المال والجبايات تكتب في بداية الفتوحات بلغات خاصة أجنبية ،على يد موظفين من الفرس والروم والأقباط .ثم أمر الخليفة عبد الملك بن مروان بتعريبها.فأصبحت العربية لغة الإدارة في عهد الأمويين.وأفادت اصطلاحات تقنية هامة.ولما شعر الأعاجم بخروج صناعة الدواوين من أيديهم،تعلموا اللغة العربية الخاصة بالإدارة ،وانخرطوا في إدارة دواوين الخلفاء والأمراء.

لقد كانت للغة العربية قدرة هائلة على احتواء اللغات الخاصة الأجنبية، وتعريبها .فعربت لغة الطب من كتب أبقراط ،ككتاب الكَسْر،وكتاب الأمراض،وكتاب طبيعة الإنسان.وعُرب من كتب جالينوس كتاب النبض،وكتاب شفاء الأمراض،وكتاب الأسطقسات، وكتاب المزاج، وكتاب العلل والأمراض، وكتاب الحِمْيات، وكتاب التشريح الكبير، وتشريح الحيوان الحي، وكتاب حركة العضل، وحركات الصدر، وكتاب الأورام، وكتاب الترياق.

فبعد الفتوحات الإسلامية انتشرت اللغة العربية في البلدان المفتوحة .وظهر فيها علماء أتقنوا لغة الفقه، والنحو، والبلاغة، والفلسفة. وعربوا علوم أممهم. فأصبحت العربية لغة عالمية. وهيمنت الحضارة العربية على شعوب آسيا، و أوروبا الشرقية، والجنوبية، وشمال أفريقيا. واستطاعت العربية بأساليبها الأدبية وغناها المعجمي أن تظل مستمرة وصامدة لقرون طويلة. فلغة الإدارة في دواوين الخلفاء، ولغة العلوم المستحدثة، ولغة العلوم المنقولة من لغات أخرى، كالفارسية والسريانية والهندية، كانت تتطلب تطويرا كبيرا للغة العربية، وتطويعا هائلا لمعجميها العام والخاص. وهذا تحد يمكننا اليوم تقديره في ضوء التحدي الذي تواجهه اللغة العربية اليوم في استيعاب علوم العصر وتقنياته، وتعريب اللغات الخاصة بهذه العلوم والتقنية.

ولا يمكن القول إن الوضع الحالي الذي تهيمن فيه اللغة الإنجليزية سيكون دائما إلى الأبد.ولقد بينت الدراسات اللسانية أن اللغة كائن حي ينشأ وينموثم يموت.فلقد كانت اللغة السائدة في العالم والحاملة للعلوم والتقنيات هي اللغة الفرنسية. وقبلها كانت اللغة العربية هي لغة الحضارة والعلوم والفنون والصناعات وعنها ترجمت أوروبا إلى اللغة اللاتينية قبل نقل العلوم إلى لغاتها المختلفة.وقبل اللغة العربية كانت اللغة اللاتينية هي اللغة السائدة والحاملة للحضارة. وقبل اللاتينية كانت اللغة اليونانية هي لغة العلم والحضارة.


الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي جريدة | berkanexpress.com

تعليقات الزوّار

أترك تعليق

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.