24 ساعة
أراء وكتاب
يوميات
خارج الحدود
الجزائر تكرس دبلوماسية البترودولار وشراء الذمم
بعد استدعاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الجزائر لتسلم صكّ قيمته 100 مليون دولار، وما رافقه من حملة دعائية كلها غمز ولمز في المغرب، وبعد امتناع تونس عن التصويت في مجلس الأمن على القرار 2602 حول الصحراء المغربية أسابيع معدودة قبل تسلمها 300 مليون دولار كقرض من الجزائر، وبعد الإعلان عن زيارة الرئيس الموريتاني ولد الغزواني للجزائر في الأنفاس الأخيرة للعام الذي نودعه، يحق لنا أن نتساءل عن عودة دبلوماسية البترودولار وشراء الذمم التي لطالما مارسها النظام الجزائري في الدهاليز المظلمة وخلف الأبواب الموصدة وفي كواليس المنظمات الدولية.
تساؤل يستمد مشروعيته من تصريحات وزير خارجية تونس الأسبق السيد أحمد ونيّس الذي كان شاهداً على حقائب الورقة الخضراء التي كانت توزعها الدبلوماسية الجزائرية على المسؤولين الأفارقة أثناء انعقاد مؤتمرات المنظمة الإفريقية، بهدف استمالتهم إلى صف المشروع الانفصالي في الصحراء المغربية الذي تحتضنه وترعاه وتموله الجزائر منذ نصف قرن.
نحن إذن أمام ممارسة قديمة ومشينة لا يلجأ إليها إلا من كان متيقناً أنّ ما يدعو إليه باطل ومتبّر، وأنّ قضيته فاشلة ولا يمكن إقناع الناس بها بالمنطق السليم والحجة الدامغة.
هو اعتراف ضمني بأن المشروع الانفصالي في الصحراء المغربية “تمّ دفنه” كما ورد حرفياً في إحدى الحوارات الصحافية الأخيرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وهو مُحق في ذلك لأنّ العالم اليوم اكتشف حجم البروبكاندا والتضليل اللذين مارسهما النظام الجزائري باحترافية تُذكرنا بمدرسة “غوبلز” النازية وشقيقتها الستالينية.
ولكن ما يؤسفنا حقاً أن ينساق الرئيس التونسي المنتخب ديمقراطيا قيس سعيد وراء نظام عسكري فاشل في كل شيء إلا في معاداته للمغرب، وأن يخضع لإملاءات سلطة القروض والودائع البنكية على حساب الشرف والمبادئ النبيلة.
إذ لا يليق ببلد أصبح رمزاً للربيع الديمقراطي الذي حرّر كرامة المواطن من قيود الديكتاتورية أن ينحي أمام نظام عسكري خرجت ملايين الحناجر تطالب بإسقاطه في الحراك الشعبي الجزائري.
لا يستقيم أن تتحول العلاقات بين الدول إلى رقصة تانغو تستجيب فيها الثورة لإغواء الجلاّد الذي يريد أن يَتَسيّد عليها بصكوك النفط والغاز، المنتزعة من جيب المواطن الجزائري البسيط والذي يعاني من انقطاع الماء، ويصطف في الطوابير الحاطّة بالكرامة للحصول على عدس أو زيت او حليب.
وإذا رجعنا بشريط الأحداث قليلاً إلى الوراء سنجد أنّ الدبلوماسية الجزائرية كانت تنصب الفخاخ تلو الأخرى لجرّ تونس إلى الاصطفاف معها منذ وقت مبكر. فقد بدأت الضغوط الخشنة على الثورة في شهورها الأولى كما أشار إلى ذلك الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي في عدة حوارات صحافية، حيث أكد أنّ “الجزائر كانت تسعى لإحباط الثورة التونسية”، وهو ما دفع بالخارجية التونسية إلى إصدار بلاغ لها في غشت 2021 للتبرّؤ من تلك التصريحات.
كما أنّ العديد من المتابعين اتهموا النظام الجزائري بالوقوف وراء عملية الاغتيالات السياسية في تونس، ومنها اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، لزعزعة استقرارها وخلط الأوراق بين الفرقاء السياسيين والدفع نحو الاحتقان وتأزيم الوضع.
ويبدو أن النظام الجزائري لم يشتغل على الرئاسة أو الحكومة لوحدهما، بل كانت له خطة “باء” مع حركة النهضة التي زار زعيمها الغنوشي الجزائر عدة مرات، واستُقبل فيها من طرف الرئيس الجزائري السابق.
ولا زلنا نتذكر تلك التصريحات البئيسة التي أدلى بها السيد الغنوشي لمغازلة الجزائر، أو ربما لرد الجميل، حين دعا وهو ساعتها رئيس للبرلمان التونسي، إلى إقامة “مغرب عربي” ثلاثي الأضلاع من تونس والجزائر وليبيا، في إقصاء ممجوج ومرفوض للمملكة المغربية التي على أرضها وقعت اتفاقية مراكش المؤسسة للاتحاد المغاربي. ورغم أن الشيخ حاول استدراك الموقف بعد الانتقادات التي وجهت له داخل تونس وخارجها إلاّ أنّ السيف كان قد سبق العذل.
ثم جاء الدور بعد ذلك على الضغوط الجزائرية الناعمة من خلال تمكين البنك المركزي التونسي من أربعة ودائع مالية كانت أولاها سنة 2011 وآخرها في فبراير 2021 بمناسبة الزيارة التي قام به قيس سعيد إلى الجزائر. ويبدو أن إغراء المال قد آتى أكله، فانعكس ذلك على السلوك الدبلوماسي للرئيس التونسي الذي خصّ الجزائر بأول زيارة رسمية له خارج الحدود لتَسلّم الصكّ الذي بلغت قيمته 150 مليون دولار.
وللتذكير فقط، فإنّ سيد قرطاج وعلى عكس سابقيه، لم يقم ولو بزيارة واحدة إلى المغرب رغم مرور أزيد من سنتين على توليه مقاليد السلطة، وفي ذلك إشارات ورسائل واضحة وأخرى مشفرة.
ومع ذلك نتمنى أن يكون هذا الانعطاف في السياسة الخارجية لتونس سحابة صيف لا تمثل التوجه العام للدبلوماسية التونسية التي ظلت في حياد إيجابي أقرب إلى المغرب منه إلى الجزائر، رغم كل الضغوط التي مورست على تونس منذ عقود، وصلت حد تهديد الرئيس الجزائري الكولونيل هواري بومدين باجتياح تونس، ورغم أحداث قفصة الشهيرة، ورغم احتلال جزء من أراضي تونس إلى اليوم.