24 ساعة
أراء وكتاب
يوميات
خارج الحدود
من يدعم عودة الراديكالية بالمغرب؟
ترتسم أمام المتابع للمشهد السياسي لوحة مختلطة لا يستطيع فك رموزها، ليس لأن خطوطها غامضة، أو ألوانها تقول الشيء وعكسه، ولكن، لأن منسوب العبث فيها يضعف القدرة على قراءتها في مجموعها والتماس خيط رفيع يجمع تلابيبها.
يسود المشهد صخب الشارع، يعبر عنه «حراك» الأساتذة المتعاقدين، المطالبين بالإدماج وإنهاء صيغة «التعاقد»، وسط ارتباك للحكومة في التعاطي مع الملف، واضطرار في الأخير إلى الإنصات لصوت العقل، والمزاوجة بين رفع المظلمة ونهج الصرامة في وجه من يجعل النضال الفئوي ذريعة لاستعادة الشارع أو استعادة 20 فبراير.
تتكرس إرادة ملء الشارع بالصخب من خلال استثمار الخلاف حول مادتين في مشروع القانون الإطار (المجانية، ولغة التدريس)، لإعلان مسيرة «عظمى» لبناء المجد الماضي، الذي في حضنه انتعشت الراديكالية بالمغرب.
أتفهم مطالب النقابات، فالحوار الاجتماعي منذ زمن، لم يخرج بطائل، والشغيلة بعد أربع سنوات من التضحيات التي قدمتها لم تنل شيئا، فقد خسرت جزءا من راتبها بسبب مساهمتها في إصلاح صندوق التقاعد، ولم تأخذ شيئا، بسبب تعنت الحكومة أو تعنت النقابات. الأمر سواء، مادامت النتيجة واحدة.
أتفهم لغة النقابات، وربما، أفهم من تكتيكات السياسة أسباب إشراك وزير الداخلية في الحوار معها، لكن ما لا يفهم في هذه اللحظة المرتبكة، هو تصريح رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، حول المساواة في الإرث بلا سياق.
أعيد تصور المشهد من جديد باستدعاء حملات إعلامية سابقة ضد رموز في العدالة والتنمية، وبشكل خاص رئيس الحكومة السابق على خلفية المعاش الاستثنائي، وأضع إلى جانب ذلك الاحتفاء الكبير بدينامية «الأحرار» وزعيمه، وبشائره بفوز مرتقب في انتخابات 2021.
أجمع هذه المعطيات، وأشعر أن شيئا مهما ينقصها لاكتمال الصورة. أستعيد موقف الأحرار، من قضية التجار، وتملصه من واجب التضامن الحكومي، ونسبته الأمر إلى الحزب القائد الحكومة، ثم أتابع موقف حزب الاستقلال «المعارض»، الذي تملص من إرثه في التدبير الحكومي، متهما حكومة العثماني بالمسؤولية عن حراك الشارع بتنزيلها لصيغة التعاقد.
أباشر التفكير في الموضوعين (موقف الحزبين)، أتذكر موقف رئيس مجلس المنافسة من موضوع تسقيف الأسعار، وكيف انتقل من موضوع إبداء الرأي في تنافسية القطاع، إلى محاكمة حكومة بنكيران في سياسة تحرير الأسعار.
أقلب التفكير في المواضيع الثلاثة الأخيرة، فأفاجأ بتصريح لوالي بنك المغرب، يتحدث عن جهود كبيرة للحكومة في تخفيض نسبة البطالة، وينذر بسنة فلاحية قاتمة سيكون لها أثرها على اقتصاد البلاد السنة المقبلة.
أعيد تركيب الصورة بتأن وحذر، فأبدأ من الاستقرار، قاعدة الاجتماع السياسي في المغرب، فأرى الارتباك يطبع سلوك مؤسسات الدولة والأحزاب تجاه الحراك. فمن جهة، هناك الدولة التي لا تقامر بالأمن، وتضع احتياطاتها الكاملة في احتواء تكتيكات الراديكاليين الذين يريدون استثمار توتر الداخل وحراك الجوار الإقليمي لخلق شروط مضرة بالاستقرار، ومن جهة مقابلة، توفر ديناميات محاصرة العدالة والتنمية كل الدعم للقوى الراديكالية، التي تجد في خطاب مسؤولين في مؤسسات دستورية، وأحزاب ونقابات، ووسائل إعلام، المبررات الكافية لتحويل الشارع إلى حراك احتجاجي ليس ضد العدالة والتنمية، ولكن ضد النظام. فالحزب في مخرجات هذه التكتيكات: فقد أخلاقه (أي الرصيد الأخلاقي الذي بنى به قاعدته الانتخابية)، وأفقر الشعب (أي فقد صفة تمثيل الطبقات الكادحة ووضع نفسه في خصومة مع النقابات)، ووقف ضد المساواة (أي أصبح خصيما للمجتمع الحقوقي)، وهو الذي يتحمل لوحده أزمة التعليم في المغرب، (أي فقد صفة تمثيل الطبقة الوسطى المهووسة بإصلاح التعليم) !!لكن، ماذا كانت النتيجة؟
أصحاب الخيال السياسي المحدود يجنون اليوم نتائج الحملة ضد «المصباح». صحيح أنها نجحت جزئيا، وعلى مدى قصير في خلق انزعاج شعبي من سياساته التي لم تناور بما يكفي لانتزاع مكاسب كبرى للطبقات المتوسطة والفقيرة، لكنها حتما لم تصب في صالح حزب إصلاحي أو حتى إداري يمكن الرهان عليه، وإنما صبت في صالح العدل والإحسان والنهج الديمقراطي، ومن يطل من كل بؤر التوتر التي أنتجتها تكتيكات الإرادات المنزعجة من الإسلاميين، فعادت الراديكالية لملء الشارع، بعدما كانت تعيش أزمتها ومخاض مساءلة خياراتها.